((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)): المفهوم الشامل لكل الرسالات
((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)).. هذا خبر يقين أخبرنا الله به جل ثناؤه وهو: أن الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده - في العصور كافة - هو (الإسلام)، وليس أي دين آخر.. وهذا الخبر يعقله العقل ولا يعقل سواه. فالله (واحد) لا شريك له، ومن ثم اختار للناس (دينا واحدا) يعبدونه به ولا يعبدون سواه، إذ إن (تعدد الأديان) يعني - بالضرورة - (تعدد الآلهة).. ومما يدخل في الحجاج العقلي - ها هنا -: أن هذا (الإسلام العام الشامل لكل الرسالات والمرسلين): أسبق - قطعا
- من الرسالات التي تنزلت على موسى وعيسى - عليهما السلام - ولذا فإنه من غير المعقول أن يوصف إبراهيم - عليه السلام - بأنه يهودي أو نصراني؛ لأنه كان مسلما، ولأن وجوده التاريخي أسبق من وجود موسى وعيسى ومن التوراة والإنجيل: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)).
نعم.. إن الدين عند الله الإسلام: إسلام آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى ومحمد - صلى الله عليهم جميعا وسلم -.. ولما كان أحسن التفاسير وأضبطها: فهمُ الآية من خلال سياقها، فإنه من خلال سياق الآية الآنفة ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ))، ومن خلال سياق آية: ((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)) ينبغي أن تُفهم هاتان الآيتان:
1- ففي أي سياق وردت آية ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ))؟.. لنقرأ: ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)).. ها هنا حقائق أو مفاهيم ثلاثة: مفهوم أن الدين الحق الذي بعث به أنبياء أهل الكتاب إليهم هو الإسلام النازل من (عند) الله، ولكنهم اختلفوا بسبب البغي بينهم.. المفهوم الثاني: أن أهل الكتاب عندما يجادلون المسلمين في هذه القضية، فإن الحجة الغالبة في هذا الجدال أو الحجاج هي الرد إلى المرجعية (الإسلامية) الموثوقة والمشتركة: ((فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ)).. المفهوم الثالث: أن اهتداء أهل الكتاب و(الأميين) العرب مشروط بإسلام وجوههم لله عز وجل: ((فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ)). 2- وفي أي سياق انتظمت آية: ((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)).. لنقرأ السياق: ((أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)).. يبدأ السياق بسؤال استنكاري ((أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ))؟!.. كيف يفعلون ذلك والحقيقة الكونية والدينية ناطقة بأن مَن في السموات والأرض (أسلموا) لله طوعا وكرها.. ثم يُؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بانشراح صدره كله بالحق كله وهو الإيمان بما أنزل على جميع الأنبياء والمرسلين المذكورين في الآية: دون تفريق بينهم في الإيمان.. ثم يأتي الإعلان الجازم الرضيّ ((وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)).. ثم بعد ذلك يأتي النص: ((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)).. والإسلام المقصود هنا - بالقطع - هو الإسلام الذي دان به ودعا إليه إبراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى وسائر النبيين.
وبالانتقال من الإجمال إلى التفصيل: نعلم أن الإسلام هو دين جميع الأنبياء الذين كانوا مسلمين بطبيعة الدعوة التي حملوا لواءها، أي الدعوة إلى الإسلام.
أ- فنوح كان مسلما وقد قال لقومه: ((وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)). ب- وأبو الأنبياء إبراهيم كان مسلما: ((وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)).
ج- ولم يك إسلام إبراهيم (مرحلة زمنية) خاصة بعصره وجيله، بل هو إسلام امتد في الزمن من بعده متمثلا في وصاته لبنيه بأن يكونوا مسلمين، وأن يثبتوا أبدا على الإسلام: ((وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)).. فالدين الذي اصطفاه الله لأولاد إبراهيم هو الإسلام.
د- ولقد استوثق يعقوب - قبيل موته - من بنيه أنهم مسلمون باقون على الإسلام: ((أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)).
هـ - وموسى كان مسلما حاملا رسالة الإسلام لقومه: ((وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ)).
و- بل إن فرعون نفسه أدرك أن الدين هو الإسلام فنطق بكلمة التوحيد، وأعلن أنه (مسلم) ولكن بعد فوات الأوان: ((حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)).
ز- وسليمان كان مسلما داعيا إلى الإسلام. فقد كان نص خطابه إلى بلقيس ملكة سبأ: ((إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)).. وحين اقتنعت هذه الملكة الذكية الراجحة العقل بدعوة سليمان أعلنت دخولها في الإسلام فأسلمت مع سليمان لله رب العالمين: ((قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).
ح- ويوسف كان مسلما إذ دعا ربه أن يتوفاه على الإسلام: ((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)).
ط- وأنبياء بني إسرائيل جميعا كانوا مسلمين (أسلموا) وجوههم لله: ((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء)).
ي- والمسيح من ضمن أنبياء بني إسرائيل، أي كان مسلما، ولذلك قال حواريوه: ((وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ)).
وتنضبط هذه (التفاصيل الإسلامية) وتتأصل بـ(المنهج الكلي) الذي حمله جميع الأنبياء: بلا استثناء.. والمنهج الكلي هو (لا إله إلا الله)، هو التوحيد الخالص، فكل نبي هتف بهذه الكلمة العظمى ودعا إليها.. وفيما يلي نماذج يتألف منها البرهان: الموضوعي والزمني:
1- ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)). 2- ((وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)). 3- ((وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)). 4- ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)).. ولا إله إلا الله هي الكلمة الباقية. 5- وقال المسيح عيسى بن مريم: ((مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ))
6- وجاء النبي الخاتم يحمل خلاصة المنهج التوحيدي المشترك الذي حمله إخوانه الأنبياء قبله.. ولقد قال: (أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، وهو مأمور باتباع منهج شيخ الملة التوحيدية الإسلامية: الخليل إبراهيم: ((ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)).
هذا الإسلام الجامع - بمعنى الاستسلام لله - هو الذي اكتشفه مارك سلجاندر من خلال بحثه الحر، وهو الإسلام ذاته: في المفهوم اللغوي، وفي معناه في الكتاب والسنة.
- من الرسالات التي تنزلت على موسى وعيسى - عليهما السلام - ولذا فإنه من غير المعقول أن يوصف إبراهيم - عليه السلام - بأنه يهودي أو نصراني؛ لأنه كان مسلما، ولأن وجوده التاريخي أسبق من وجود موسى وعيسى ومن التوراة والإنجيل: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)).
نعم.. إن الدين عند الله الإسلام: إسلام آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى ومحمد - صلى الله عليهم جميعا وسلم -.. ولما كان أحسن التفاسير وأضبطها: فهمُ الآية من خلال سياقها، فإنه من خلال سياق الآية الآنفة ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ))، ومن خلال سياق آية: ((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)) ينبغي أن تُفهم هاتان الآيتان:
1- ففي أي سياق وردت آية ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ))؟.. لنقرأ: ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)).. ها هنا حقائق أو مفاهيم ثلاثة: مفهوم أن الدين الحق الذي بعث به أنبياء أهل الكتاب إليهم هو الإسلام النازل من (عند) الله، ولكنهم اختلفوا بسبب البغي بينهم.. المفهوم الثاني: أن أهل الكتاب عندما يجادلون المسلمين في هذه القضية، فإن الحجة الغالبة في هذا الجدال أو الحجاج هي الرد إلى المرجعية (الإسلامية) الموثوقة والمشتركة: ((فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ)).. المفهوم الثالث: أن اهتداء أهل الكتاب و(الأميين) العرب مشروط بإسلام وجوههم لله عز وجل: ((فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ)). 2- وفي أي سياق انتظمت آية: ((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)).. لنقرأ السياق: ((أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)).. يبدأ السياق بسؤال استنكاري ((أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ))؟!.. كيف يفعلون ذلك والحقيقة الكونية والدينية ناطقة بأن مَن في السموات والأرض (أسلموا) لله طوعا وكرها.. ثم يُؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بانشراح صدره كله بالحق كله وهو الإيمان بما أنزل على جميع الأنبياء والمرسلين المذكورين في الآية: دون تفريق بينهم في الإيمان.. ثم يأتي الإعلان الجازم الرضيّ ((وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)).. ثم بعد ذلك يأتي النص: ((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)).. والإسلام المقصود هنا - بالقطع - هو الإسلام الذي دان به ودعا إليه إبراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى وسائر النبيين.
وبالانتقال من الإجمال إلى التفصيل: نعلم أن الإسلام هو دين جميع الأنبياء الذين كانوا مسلمين بطبيعة الدعوة التي حملوا لواءها، أي الدعوة إلى الإسلام.
أ- فنوح كان مسلما وقد قال لقومه: ((وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)). ب- وأبو الأنبياء إبراهيم كان مسلما: ((وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)).
ج- ولم يك إسلام إبراهيم (مرحلة زمنية) خاصة بعصره وجيله، بل هو إسلام امتد في الزمن من بعده متمثلا في وصاته لبنيه بأن يكونوا مسلمين، وأن يثبتوا أبدا على الإسلام: ((وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)).. فالدين الذي اصطفاه الله لأولاد إبراهيم هو الإسلام.
د- ولقد استوثق يعقوب - قبيل موته - من بنيه أنهم مسلمون باقون على الإسلام: ((أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)).
هـ - وموسى كان مسلما حاملا رسالة الإسلام لقومه: ((وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ)).
و- بل إن فرعون نفسه أدرك أن الدين هو الإسلام فنطق بكلمة التوحيد، وأعلن أنه (مسلم) ولكن بعد فوات الأوان: ((حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)).
ز- وسليمان كان مسلما داعيا إلى الإسلام. فقد كان نص خطابه إلى بلقيس ملكة سبأ: ((إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)).. وحين اقتنعت هذه الملكة الذكية الراجحة العقل بدعوة سليمان أعلنت دخولها في الإسلام فأسلمت مع سليمان لله رب العالمين: ((قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).
ح- ويوسف كان مسلما إذ دعا ربه أن يتوفاه على الإسلام: ((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)).
ط- وأنبياء بني إسرائيل جميعا كانوا مسلمين (أسلموا) وجوههم لله: ((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء)).
ي- والمسيح من ضمن أنبياء بني إسرائيل، أي كان مسلما، ولذلك قال حواريوه: ((وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ)).
وتنضبط هذه (التفاصيل الإسلامية) وتتأصل بـ(المنهج الكلي) الذي حمله جميع الأنبياء: بلا استثناء.. والمنهج الكلي هو (لا إله إلا الله)، هو التوحيد الخالص، فكل نبي هتف بهذه الكلمة العظمى ودعا إليها.. وفيما يلي نماذج يتألف منها البرهان: الموضوعي والزمني:
1- ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)). 2- ((وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)). 3- ((وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)). 4- ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)).. ولا إله إلا الله هي الكلمة الباقية. 5- وقال المسيح عيسى بن مريم: ((مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ))
6- وجاء النبي الخاتم يحمل خلاصة المنهج التوحيدي المشترك الذي حمله إخوانه الأنبياء قبله.. ولقد قال: (أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، وهو مأمور باتباع منهج شيخ الملة التوحيدية الإسلامية: الخليل إبراهيم: ((ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)).
هذا الإسلام الجامع - بمعنى الاستسلام لله - هو الذي اكتشفه مارك سلجاندر من خلال بحثه الحر، وهو الإسلام ذاته: في المفهوم اللغوي، وفي معناه في الكتاب والسنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق